كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ عَدَمَ نَقْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ عَنِ السَّلَفِ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ وَأَيَّدَهُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ أَعْمَالَ الْبِرِّ- فَجَوَابُهُ أَنَّهُ مَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ الْمَشْرُوعَةِ إِلَّا وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ فِيهِ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ، حَتَّى الصَّدَقَاتِ الَّتِي صَرَّحَ الْقُرْآنُ بِتَفْضِيلِ إِخْفَائِهَا عَلَى الْإِبْدَاءِ تَكْرِيمًا لِلْفُقَرَاءِ وَسَتْرًا عَلَيْهِمْ، وَلِمَا قَدْ يَعْرِضُ فِيهَا مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءِ الْمُبَطِلَةِ لَهَا. وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِلْمَوْتَى لَيْسَتْ كَذَلِكَ حَتَّى إِنَّ الْمُرَاءَاةَ بِهَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَقَعُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ لِغَيْرِهِ لَا يُعَدُّ مِنَ الْعِبَادِ الْمُمْتَازِينَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَكْتُمَهُ خَوْفَ الرِّيَاءِ. ثُمَّ أَيْنَ الَّذِينَ نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْإِرْشَادِ وَالْقُدْوَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، لِمَ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبِرِّ الَّذِي عَمَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ خَيْرِ الْعُصُورِ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا؟ فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَتْرُكُونَ الْأَمْرَ بِالْبِرِّ كَمَا قِيلَ جَدَلًا إِنَّهُمْ أَخْفَوْا هَذَا النَّوْعَ مِنْهُ وَحْدَهُ؟ كَلَّا، إِنَّهُمْ كَانُوا هُدَاةً بِأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَتَأْثِيرُ الْأَعْمَالِ فِي الْهِدَايَةِ أَقْوَى.
وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ تَخْصِيصَ الْإِذْنِ فِي الْأَحَادِيثِ بِالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ دُونَ الْقِرَاءَةِ بِقَوْلِهِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْتَدِئْهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْقِرَاءَةِ- فَجَوَابُهُ: أَنَّ عَدَمَ ابْتِدَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ عَلَى إِطْلَاقِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُبَيِّنًا لِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ كَمَا أُمِرَ بِهِ وَهَذَا مُحَالٌ. وَسُؤَالُ أُولَئِكَ الْأَفْرَادِ إِيَّاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنْ نُصُوصِ الدِّينِ وَلَا مِنَ السُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّتِهِ فَلِذَلِكَ اسْتَفْتَوْهُ فِيهِ، وَلَمْ يَسْتَفْتُوهُ فِي الْعَمَلِ عَلَى غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ لِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي مَنْعِهِ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ وُصُولِ ثَوَابِ الصِّيَامِ وَوُصُولِ ثَوَابِ الذِّكْرِ، فَقَدْ بَيَّنَّا آنِفًا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى وُصُولِ ثَوَابِ الصِّيَامِ مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ مَنْ يَصُومُ عَنْ مَيِّتٍ حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّيَامِ خَاصٌّ بِالْقَضَاءِ مِنَ الْوَلَدِ نِيَابَةً عَنِ الْوَالِدِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عَمِلَهُ لِنَفْسِهِ وَأَهْدَى ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، عَلَى أَنَّ هَذَا مِمَّا وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّ أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ قَائِلٌ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ إِلَخْ. فَجَوَابُهُ: أَنَّ الَّذِي يُثْبِتُ مَا ذَكَرَ لِلسَّلَفِ أَجْدَرُ بِقَوْلِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَنَاهِيكَ بِهِ إِذَا كَانَ مُعْتَرِفًا بِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَالنَّفْيُ هُوَ الْأَصْلُ، وَحَسْبُ النَّافِي نَفْيُهُ لِلنَّقْلِ عَنْهُمْ فِي أَمْرٍ تَدُلُّ الْآيَاتُ الصَّرِيحَةُ عَلَى عَدَمِ شَرْعِيَّتِهِ، وَيَدُلُّ الْعَقْلُ وَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ سِيرَتِهِمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَتَوَاتَرَ عَنْهُمْ أَوِ اسْتَفَاضَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الثَّوَابَ مِلْكٌ لِلْعَامِلِ إِلَخْ. فَلَمْ نَكُنْ نَنْتَظِرُهُ مِنْ أُسْتَاذِنَا وَمُرْشِدِنَا إِلَى اتِّبَاعِ النَّقْلِ فِي أُمُورِ الدِّينِ دُونَ النَّظَرِيَّاتِ وَالْآرَاءِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ النَّظَرِيَّةَ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ؛ فَإِنَّ الثَّوَابَ أَمْرٌ مَجْهُولٌ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ كَأُمُورِ الْآخِرَةِ كُلِّهَا، فَإِنَّهَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهَا. وَمَا وَعَدَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ الْمُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ بِشُرُوطِهَا لَا يَعْرِفُونَ كُنْهَهُ وَلَا مُسْتَحِقَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ؛ وَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِأَنْ يَكُونُوا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْآيَاتِ وَلَا الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ يَمْلِكُ ثَوَابَ عَمَلِهِ وَهُوَ فِي الدُّنْيَا كَمَا يَمْلِكُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أَوِ الْقَمْحَ وَالتَّمْرَ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ، بَلْ ذَلِكَ جَزَاءٌ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى أَعَدَّهُ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِحَسَبِ تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ فِي إِعْدَادِ أَنْفُسِهِمْ لَهُ بِتَزْكِيَتِهَا وَجَعْلِهَا أَهْلًا لِجِوَارِهِ وَرِضْوَانِهِ كَمَا قَالَ: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [20: 75، 76] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [87: 14] إِلَخْ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [91: 9] {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [9: 103] وَقَالَ: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [6: 139].
فَذَكَرَ الْوَصْفَ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَذَكَرَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى الصِّفَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَهِيَ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ وَالصِّدْقُ وَمِنْهَا مَا ذُكِرَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ. فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ الصَّرِيحَةُ الْمَعْنَى الْمَعْقُولَةُ الْحِكْمَةِ وَسَائِرُ آيَاتِ الْجَزَاءِ وَالْآيَاتُ النَّافِيَةُ لِلْعَدْلِ وَالْفِدَاءِ، وَالْآيَاتُ النَّافِيَةُ لِمِلْكِ نَفْسٍ لِنَفْسٍ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي الْآخِرَةِ، تُؤَيِّدُ كُلُّهَا آيَةَ الْأَنْعَامِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا وَآيَاتِ النَّجْمِ وَغَيْرَهَا، وَتُبْطِلُ دَعْوَى مِلْكِ الْإِنْسَانِ لِثَوَابِ عِبَادَاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ بِهَا، وَلَوْ كَانَ الثَّوَابُ كَالْمَالِ يُوهَبُ لَكَانَ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ يَبِيعُونَ ثَوَابَ كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ لِلْأَغْنِيَاءِ، وَحَاشَ لِلَّهِ وَلِحِكْمَةِ دِينِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَعَمَلُ الْخَلَفِ وَحْدَهُ فِي أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ كَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ انْتِفَاعَ الْمَيِّتِ بِعَمَلِ أَوْلَادِهِ يُنَافِي الْقَاعِدَةَ الَّتِي ذَكَرْتَهَا فِي الْجَزَاءِ أَيْضًا، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُزَكِّ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا بِالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَمَا تَطْبَعُهُ فِي النَّفْسِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ لَا يُزَكِّيهَا عَمَلُ أَوْلَادِهِ مِنْ بَعْدِهِ- قُلْنَا: نَعَمْ إِنَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَلَكِنَّ مَنْ بِيَدِهِ أَمْرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ اسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ هَذَا الْأَصْلِ، لَا بَلْ أَلْحَقُ بِهِ شَيْئًا يَنْقُضُهُ وَلَا يَذْهَبُ بِحِكْمَتِهِ، وَهُوَ انْتِفَاعُ بَعْضِ الْوَالِدَيْنِ الْمُؤْمِنَيْنِ بِبَعْضِ عَمَلِ أَوْلَادِهِمْ، أَوْ جَعْلُهُ مِنْهُ بِالتَّبَعِ وَالسَّبَبِيَّةِ، كَمَا أَدْخَلَ فِي عُمُومِهِ انْتِفَاعَ مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ مِنْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ بِعَمَلِ مَنِ اسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ وَعَمِلَ بِعِلْمِهِ أَوِ اقْتَدَى بِعَمَلِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ ثَوَابِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ شَيْءٌ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ يُحْتَجُّ بِهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَطْيَبُ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِهِ فَكُلُّوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ وَالِدَهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَالِهِ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: إِنَّ ثَوَابَ الْأَعْمَالِ لَيْسَ أَعْيَانًا مَمْلُوكَةً لِلْعَامِلِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ، بَلْ هُوَ جَزَاءٌ مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ مُرَتَّبًا عَلَى تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ مُبَاشَرَةً وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا.
وَثَانِيهُمَا: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَعَدَّى فِيهَا نَفْعُ الْعَامِلِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالسُّنَّةِ الْحَسَنَةِ وَالصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ وَالْعِلْمِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ الَّذِي يَدْعُو لَهُ، أَوْ يَقْضِي دَيْنَ اللهِ أَوِ النَّاسِ أَوْ يَتَصَدَّقُ عَنْهُ، وَتَقَدَّمَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي ذَلِكَ. وَهَذِهِ تَكُونُ بِقَدْرِ انْتِفَاعِ النَّاسِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا بِحَسَبِ تَأْثِيرِ الْعَامِلِ فِي السَّبَبِيَّةِ لَهَا عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِ لِلسَّبَبِ، كَتَأْلِيفِ الْكِتَابِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ. وَفَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ مُضَاعِفَةُ اللهِ لِمَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ.
خِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ:
الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ الـ16 وَهِيَ: هَلْ تَنْتَفِعُ أَرْوَاحُ الْمَوْتَى بِشَيْءٍ مِنْ سَعْيِ الْأَحْيَاءِ أَمْ لَا؟ وَذَكَرَ فِي الْجَوَابِ أَنَّهَا تَنْتَفِعُ مِنْ سَعْيِ الْأَحْيَاءِ فِي أَمْرَيْنِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، أَحَدُهُمَا: مَا تَسَبَّبَ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، وَالثَّانِي: دُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَاسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ.
قَالَ: وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ عَلَى نِزَاعٍ: مَا الَّذِي يَصِلُ مِنْ ثَوَابِهِ! هَلْ هُوَ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ أَمْ ثَوَابُ الْعَمَلِ؟ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: يَصِلُ ثَوَابُ الْعَمَلِ نَفْسِهِ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّمَا يَصِلُ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ. ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، وَزَعَمَ أَنَّ مَذْهَبَ أَحْمَدَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وُصُولُهَا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ بِأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يَعْمَلُ الشَّيْءَ مِنَ الْخَيْرِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَجْعَلُ نِصْفَهُ لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ. قَالَ: أَرْجُو. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالْجَوَابِ، وَأَنَّ مَوْضُوعَ السُّؤَالِ انْتِفَاعُ الْوَالِدَيْنِ بِعَمَلِ الْوَلَدِ خَاصَّةً، وَلَيْسَ فِي رَجَائِهِ خُرُوجٌ عَنِ النَّصِّ إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ- ثُمَّ قَالَ: وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِلُ. وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ، لَا دُعَاءٌ وَلَا غَيْرُهُ؟.
أَقُولُ: رَاجَعْتُ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ كِتَابَ الْفُرُوعِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ فَرَأَيْتُ فِيهِ خِلَافًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، أَحْسَنُهُ وَأَوْلَاهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ قَوْلُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ فِي بَحْثِ إِهْدَاءِ الثَّوَابِ. وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَهُ كَلَامًا فِي عَدَمِ جَوَازِ الْإِيثَارِ بِالْفَضَائِلِ وَالدِّينِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ بِجَوَازِ بَعْضِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَتَقْدِيمِ وَالِدِهِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ- وَكَلَامًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيثَارِ بِمَا أَحْرَزَهُ وَمَا لَمْ يُحْرِزْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ شَيْخُنَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَةِ السَّلَفِ إِهْدَاءُ ذَلِكَ إِلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ، بَلْ كَانُوا يَدْعُونَ لَهُمْ فَلَا يَنْبَغِي الْخُرُوجُ عَنْهُمْ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَرَهُ شَيْخُنَا كَمَنْ لَهُ أَجْرُ الْعَالِمِ كَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلِّمِ الْخَيْرِ بِخِلَافِ الْوَالِدِ لِأَنَّ لَهُ أَجْرًا لَا كَأَجْرِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يُثَابُ عَلَى إِهْدَائِهِ فَيَكُونُ لَهُ مِثْلُهُ أَيْضًا، فَإِنْ جَازَ إِهْدَاؤُهُ فَهَلُمَّ جَرًّا، وَيَتَسَلْسَلُ ثَوَابُ الْعَامِلِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ عَمَلٍ وَعَمَلٍ، وَإِنْ قِيلَ يَحْصُلُ ثَوَابُهُ مَرَّتَيْنِ لِلْمَهْدِيِّ إِلَيْهِ وَلَا يَبْقَى لِلْعَامِلِ ثَوَابٌ فَلَمْ يُشَرِّعِ اللهُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْفَعَ غَيْرَهُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا مَنفَعَةَ لَهُ فِي الدَّارَيْنِ فَيَتَضَرَّرَ (كَذَا) وَلَا يَلْزَمُ دُعَاؤُهُ لَهُ وَنَحْوُهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَافَأَةٌ لَهُ كَمُكَافَأَتِهِ لِغَيْرِهِ، يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَدْعُوُّ لَهُ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ الْمُكَافَأَةِ وَلِلْمَدْعُوِّ لَهُ مِثْلُهُ فَلَمْ يَتَضَرَّرْ وَلَمْ يَتَسَلْسَلْ وَلَا يَقْصِدُ أَجْرَهُ إِلَّا مِنَ اللهِ اهـ.
وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ أَقْدَمَ مَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيُّ بْنُ الْمُوَفَّقِ أَحَدُ الشُّيُوخِ الْمَشْهُورِينَ مِنْ طَبَقَةِ أَحْمَدَ وَشُيُوخِ الْجُنَيْدِ، ثُمَّ نَقَلَ صَاحِبُ الْفُرُوعِ عَنْ تَارِيخِ الْحَاكِمِ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ السَّرَّاجِ النَّيْسَابُورِيِّ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا انْفَرَدَ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَا يُعِدُّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَوْلَهُ أَوْ عَمَلَهُ حُجَّةً أَوْ يَتَّخِذُهُ قُدْوَةً فِيهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ بَعْدَ تَابِعِ التَّابِعِينَ- فَكَيْفَ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ فِي الْكِتَابِ السُّنَّةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ مُحَرِّرُ مَذَاهِبِ الْحَنَفِيَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَاخِرِ تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ، فَذَكَرَ إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى نَفْعِ الدُّعَاءِ وَخِلَافَهُمْ فِي وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ وَاخْتِيَارَ الْوُصُولِ وَالِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ: «إِذَا مَاتَ الْعَبْدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ» إِلَخْ. وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِإِطْلَاقٍ بَلْ عَلَى عَدَمِهِ كَمَا عَلِمْتَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ سُئِلَ عَمَّنْ قَرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللهُمَّ اجْعَلْ ثَوَابَ مَا قَرَأْتُهُ أَوْ مِثْلَ ثَوَابِ مَا قَرَأْتُهُ زِيَادَةً فِي شَرَفِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا مَعْنَى الزِّيَادَةِ مَعَ كَمَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: هَذَا مُخْتَرَعٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْقُرَّاءِ لَا أَعْرِفُ لَهُمْ سَلَفًا وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُحَالٍ كَمَا تَخَيَّلَهُ السَّائِلُ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ: اللهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا إِلَخْ. فَلَعَلَّ الْمُخْتَرِعَ الْمَذْكُورَ قَاسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ لَحَظَ أَنَّ مَعْنَى طَلَبِ الزِّيَادَةِ أَنْ تُتَقَبَّلَ قِرَاءَتُهُ فَيُثِيبُهُ عَلَيْهَا وَإِذَا أُثِيبَ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى فِعْلِ طَاعَةٍ مِنَ الطَّاعَاتِ كَانَ لِلَّذِي عَلَّمَهُ نَظِيرُ أَجْرِهِ وَلِلْمُعَلِّمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعُ ذَلِكَ، فَهَذَا مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي شَرَفِهِ وَإِنْ كَانَ شَرَفُهُ مُسْتَقِرًّا حَاصِلًا اهـ.
وَنَقُولُ: حَسْبُنَا مِنَ الْحَافِظِ- أَثَابَهُ اللهُ- أَنَّ هَذَا مُخْتَرَعٌ مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، فَهُوَ إِمَامُ النَّقْلِ وَحَافِظُ السُّنَّةِ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَمَّا قِيَاسُ هَذَا الدُّعَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ بِزِيَادَةِ شَرَفِ الْبَيْتِ فَهُوَ قِيَاسٌ فِي أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ لَا مَحَلَّ لَهُ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ مَعْنَى زِيَادَةِ شَرَفِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ حَقِيقَةٌ وَاقِعَةٌ بِكَثْرَةِ مَنْ يَحُجُّهُ وَيَعْبُدُ اللهَ فِيهِ، وَزِيَادَةُ ثَوَابِ الْمُعَلِّمِ الْمُرْشِدِ بِعَمَلِ مَنْ أَخَذَ بِعِلْمِهِ وَهَدْيِهِ لَا يُسَمَّى شَرَفًا فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالسُّبْكِيِّ وَالْبَارِزِيِّ وَبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ كَابْنِ عَقِيلٍ تَبَعًا لِعَلِيِّ بْنِ الْمُوَفَّقِ وَكَانَ فِي طَبَقَةِ الْجُنَيْدِ وَلِأَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ السَّرَّاجِ النَّيْسَابُورِيِّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ إِهْدَاءُ ثَوَابِ الْقُرْآنِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي هُوَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمُجِيزِينَ، وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَا يُسْتَحَبُّ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ قَاضِي شِهْبَةَ: يُمْنَعُ، وَابْنُ الْعَطَّارِ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ، وَقَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ: لَا يُرْوَى عَنِ السَّلَفِ وَنَحْنُ بِهِمْ نَقْتَدِي. ثُمَّ قَالَ بِجَوَازِهِ بَلْ بِاسْتِحْبَابِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا كَانَ يُهْدَى إِلَيْهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمَّا طَلَبَ الدُّعَاءَ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَحَثَّ الْأُمَّةَ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُ بِالْوَسِيلَةِ عِنْدَ الْأَذَانِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدِ اتَّبَعْتَ، وَإِنْ فَعَلْتَ فَقَدْ قِيلَ بِهِ اهـ. كَلَامُ ابْنِ الْجَزَرِيِّ.
وَقَالَ الْكَمَالُ بْنُ حَمْزَةَ الْحُسَيْنِيُّ: الْأَحْوَطُ التَّرْكُ. مِنْ كَنْزِ الرَّاغِبِينَ لِلْبُرْهَانِ التَّاجِيِّ مُلَخَّصًا، فَهَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ، وَحَيَّا اللهُ مُرَجِّحِي اتِّبَاعِ السَّلَفِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ كُلِّهِمْ، وَلَيْسَ هُوَ الْأَحْوَطَ فَقَطْ بَلِ الْمُتَعَيَّنُ الَّذِي يَرُدُّ كُلَّ مَا خَالَفَهُ وَيَضْرِبُ بِأَقْيِسَةِ الْمُخَالِفِينَ عُرْضَ الْحَائِطِ، لَا لِمُخَالَفَتِهَا هَدْيَ سَلَفِ الْأُمَّةِ فَقَطْ، بَلْ لِظُهُورِ بُطْلَانِهَا وَمُصَادَمَتِهَا لِلنُّصُوصِ أَيْضًا فَإِنَّ قِيَاسَ إِهْدَاءِ الْعِبَادَاتِ أَوْ ثَوَابِهَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى إِهْدَاءِ مَتَاعِ الدُّنْيَا قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعَادَةِ وَبَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَيْفَ وَهُوَ مُصَادِمٌ لِلنَّصِّ، وَحَسْبُنَا اتِّبَاعُ السَّلَفِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ:
فَكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفَ ** وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفَ

ثُمَّ أَقُولُ: وَقَدِ اضْطَرَبَ كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ فِقْهِ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَحَادِيثِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ فَاغْتَرَّ بِالْإِطْلَاقِ، وَلَكِنَّهُ اهْتَدَى إِلَى الصَّوَابِ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى أَحَادِيثِ الْمُنْتَقَى فِي بَابِ مَا يُهْدَى مِنَ الْقُرَبِ إِلَى الْمَوْتَى، وَكُلُّهَا وَارِدَةٌ فِي تَصَدُّقِ الْأَوْلَادِ عَنِ الْوَالِدَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصِّيَامِ وَالْحَجِّ قَالَ: وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْوَلَدِ تَلْحَقُ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا بِدُونِ وَصِيَّةٍ مِنْهُمَا وَيَصِلُ إِلَيْهِمَا ثَوَابُهَا فَيُخَصِّصُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [53: 39] وَلَكِنْ لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ إِلَّا لُحُوقُ الصَّدَقَةِ مِنَ الْوَلَدِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ وَلَدَ الْإِنْسَانِ مِنْ سَعْيِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّخْصِيصِ، وَأَمَّا مِنْ غَيْرِ الْوَلَدِ فَالظَّاهِرُ الْعُمُومَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ ثَوَابُهُ إِلَى الْمَيِّتِ، فَيُوقَفُ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهَا ثُمَّ ذَكَرَ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
هَذَا وَإِنَّنَا نَخْتِمُ هَذَا الْبَحْثَ بِأَحَادِيثَ اغْتَرَّ بِهَا بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِانْتِفَاعِ الْمَوْتَى بِكُلِّ مَا يُعْمَلُ لِأَجْلِهِمْ أَوْ يُهْدَى إِلَيْهِمْ مِنْ ثَوَابِ غَيْرِهِمْ.
(1) حَدِيثُ وَضْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَرِيدَتَيْنِ عَلَى الْقَبْرَيْنِ اللَّذَيْنِ أُوِحِيَ إِلَيْهِ أَنَّ أَصْحَابَهُمَا يُعَذَّبَانِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِانْتِفَاعِ الْمَوْتَى بِعَمَلِ الْأَحْيَاءِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَقُومُ دَلِيلًا وَلَا اسْتِئْنَاسًا فَإِنَّهُ وَاقِعَةُ حَالٍ فِي أَمْرٍ غَيْبِيٍّ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَالظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(2) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ. قَالَ: «مَنْ شُبْرُمَةُ؟» قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ: «حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» قَالَ الْحَافِظُ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَقْفُهُ. وَفِي عَوْنِ الْمَعْبُودِ: رَجَّحَ الطَّحَاوِيُّ وَقْفَهُ وَقَالَ أَحْمَدُ رَفْعُهُ خَطَأٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ فِي سَنَدِهِ قَتَادَةَ عَنْ عَزْرَةَ وَلَمْ يُنْسَبْ عَزْرَةُ إِلَى وَالِدٍ وَلَا بَلَدٍ، وَقَدْ قَالَ النَّسَائِيُّ: إِنَّ عَزْرَةَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. فَتَرَجَّحَ بِهَذَا أَنَّهُ عَزْرَةُ بْنُ تَمِيمٍ، لِأَنَّ قَتَادَةَ قَدِ انْفَرَدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ كَمَا قَالَ الْخَطِيبُ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي التَّهْذِيبِ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي تَرْجَمَةِ عَزْرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قِصَّةِ شُبْرُمَةَ فَوَقَعَ عِنْدَهُمَا عَزْرَةُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ، وَجَزَمَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّهُ عَزْرَةُ بْنُ يَحْيَى، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَوَى قَتَادَةُ أَيْضًا عَنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَعَنْ عَزْرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَنْ هَذَا- فَقَتَادَةُ قَدْ رَوَى عَنْ ثَلَاثَةٍ كُلٌّ مِنْهُمُ اسْمُهُ عَزْرَةُ، فَقَوْلُ النَّسَائِيِّ فِي التَّمْيِيزِ عَزْرَةُ الَّذِي رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ لَيْسَ بِذَلِكَ الْقَوِيِّ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي عَزْرَةَ بْنِ تَمِيمٍ كَمَا سَاقَهُ فِيهِ الْمُؤَلِّفُ فَلْيُتَفَطَّنْ لِذَلِكَ. قلت وَعَزْرَةُ بْنُ يَحْيَى لَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ. اهـ.